فصل: تفسير الآيات (77- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (77- 82):

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)}.
التفسير:
بعد هذا التعقيب، يجيء فصل جديد من فصول القصة، حيث تنتقل الأحداث إلى مسرح آخر.. تتغير فيه المشاهد، وتنطلق في اتجاه غير الاتجاه الذي كانت تسير فيه.
فهذا موسى، عليه السلام، يتلقى وحيا من ربه بأن يسرى ليلا ببني إسرائيل، متخذا وجهته نحو الشرق إلى سيناء، ويعبر بهم البحر، صانعا لهم طريقا يبسا بعصاه التي يضرب بها البحر، فينشق، وينحسر ماؤه عن الأرض.. فإذا هي طريق يبس، كأن لم يمسسه الماء من قبل.
وقبل أن ينطلق موسى بقومه، يسمع كلمات ربّه: {لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى} فيمتلئ قلبه طمأنينة وأمنا إنه لا يخاف {دركا} أي لحاقا من فرعون وجنوده.. وإنه لا يخشى البحر، حين يلقاه معترضا طريقه إلى النجاة من يد فرعون الذي يجدّ في طلبه.
فالخوف، هو مما يجيئه من ورائه.. والخشية، مما يلقاه من أمامه.. وإنه لا خوف ولا خشية، مع عون اللّه، وتأييده! وها هو ذا فرعون يحث السير بجنوده، طلبا للحاق بموسى.. ويمضى في طريقه، حتى يركب الطريق اليبس الذي ركبه موسى وقومه منذ قليل.
وقد أعماه الغيظ، وحبّ الانتقام، من أن يقف على رأس هذا الطريق قليلا، ويسأل نفسه: كيف قام هذا الطريق وبأى يد أقيم إنه ليعلم عن يقين أن لا طريق بين عبرى هذا البحر؟ أفلا تلفته هذه الظاهرة إلى هذه المعجزة التي بين يدى موسى؟ ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
لقد أورد فرعون نفسه وقومه موارد الحتوف: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ}.
أي غطاهم من البحر ما غطاهم من مائه الغمر.. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى}! وهكذا يسدل الستار على هذه المأساة، التي طوت فرعون وقومه في لمحة خاطفة..!
ولا تذكر القصة ما صنع فرعون بالسحرة، وهل أمضى حكمه فيهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلّبهم في جذوع النخل.. أم أنهم أفلتوا من يديه، ونجوا في زحمة هذه الأحداث؟
يمكن أن يكون فرعون قد ألقى بالسحرة في السجن، وانتظر تنفيذ حكمه فيهم حتى يفرغ من موسى وقومه.. كما يمكن أن يكون قد أمضى فيهم حكمه.
إن الأمرين يستويان.. فإن يكن السحرة قد هلكوا بيد فرعون، فليسوا هم بأول أو آخر مستشهدين في سبيل العقيدة.. وإن يكونوا قد نجوا من هذا البلاء، فقد نجا كثير غيرهم من المؤمنين، وأفلتوا من يد البغاة والمتجبرين.
فليس المهم إذن هو أن يهلك المؤمنون أو يسلموا، وإنما المهم هو أن يثبتوا على إيمانهم، ويوطدوا النفس على احتمال كل بلاء، وملاقاة كل شدة.. ثم لا عليهم أن يسلموا أو يعطبوا، مادام قد سلم لهم إيمانهم، وظل بمكانه المكين من قلوبهم.
ثم هاهم أولاء بنو إسرائيل، قد وجدوا نعمة اللّه وخلصوا من يد فرعون، ونجوا من هذا العذاب المهين الذي جعله طعاما وشرابا لهم.
{يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ}.
فاذكروا هذه النعمة، وارعوها، ولا تفسدوها بالمكر بها، والتنكر لها.
{وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} أي هذا هو موعد لقائى بكم، حيث تنزلون بالجانب الأيمن من الطور، وحيث يتلقى نبيكم موسى ما أوحى به إليه من كلماتى.. فاستمعوا له، وخذوا بما يوحى إليه، واستقيموا عليه.
{وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى}.
وفى هذا المكان الجديب القفر.
ستجدون طعامكم طيبا حاضرا.. {إنه الْمَنَّ وَالسَّلْوى}.
والمن: هو مادة كالعسل تنزل من السماء كالندى، فتنعقد على ما تعلق به من شجر أو حجر.
والسلوى: طائر يشبه السّمانى.
{كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى}.
فمن هذا الطعام الطيب- المن والسلوى- كلوا، وانعموا، واشكروا للّه الذي رزقكم.. ولا تطغوا في هذا الرزق، الذي جاءكم من غير عمل.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} إشارة إلى هذا الرزق الذي أفاضه اللّه عليهم، بلا حساب، حتى لقد كان ظرفا يحتويهم، ويشتمل عليهم، ويحفّ بهم من كل جانب.. إنه خير كثير، ورزق غدق.
وهذا الرزق الغدق، إذا صادف نفوسا خبيثة، بشمت به، وتداعت عليها العلل والأسقام، وتحول به الإنسان إلى حيوان ضار شرس.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} [6- 7: العلق].
وفى قوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى} تحذير لبنى إسرائيل، وتهديد لهم من أن تبطرهم هذه النعمة، ويغرّهم باللّه الغرور.. والويل لمن تعرض لغضب اللّه.. إنه يهوى إلى مكان سحيق، حيث الهلاك والبلاء.
وقد بطر بنو إسرائيل، ومكروا بآيات اللّه، وكفروا بنعمه، فحلّ عليهم غضبه، ونزلت بهم لعنته.. كما أخبر اللّه تعالى عنهم في آيات كثيرة.
فهم المغضوب عليهم في كل موضع من القرآن الكريم، ذكر فيه غضب اللّه.
فمن ذلك قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [61: البقرة] وقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [112: آل عمران].
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى}.
فاللّه سبحانه وتعالى يمدّ للظالمين، ويمهلهم، ليكون لهم في ذلك فسحة من الحياة، يراجعون فيها أنفسهم، ويرجعون إلى اللّه، تائبين مستغفرين.
وعندئذ يجد هؤلاء الراجعون إلى اللّه أبواب القبول مفتحة لهم، ويد الرحمة ممدودة إليهم.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ اهْتَدى}.
إشارة إلى أن التوبة لا تقبل إلّا إذا صحّت نيّة التائب، وصدّق نيّته العمل.. فاستقام على طريق الهدى، ولم يلتفت إلى طريق الضلال الذي قطع مسيرته فيه، وجاء إلى اللّه تائبا.

.تفسير الآيات (83- 98):

{وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)}.
التفسير:
وبهذه الآية تختم القصة.. وفى ختامها ينكشف بنو إسرائيل، حيث يرون بأعينهم المنحدر الذي انحدروا إليه، فلقد كفروا باللّه، وجعلوا من العجل إلها يعبدونه من دون اللّه! فما أجدت معهم هذه الآيات، ولا رفعت عن أعينهم ما عليها من الغشاوة، ولا أزاحت عن قلوبهم ما ران عليها من الضلال..!
لقد كان موسى على موعد مع ربّه، ليتلقّى الألواح، وما كتب له فيها.
وفى قوله تعالى: {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى} إشارة إلى أن حدثا قد حدث فيهم من بعده، وأنه وقد جاء يستعجل لهم الخير، قد طعنوه من وراء ظهره، وأفسدوا كل ما أصلحه منهم! ولكنه لم يكن يدرى ماذا حدث.
ولهذا جاء جواب موسى:
{هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي} أي أنهم على ما تركتهم عليه، يسيرون على المنهج الذي رسمته لهم، ويتأثرون خطاى في طاعتك وابتغاء مرضاتك.
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} هذا هو الجواب عما سأل اللّه سبحانه وتعالى موسى عنه.. أما ما سبق ذلك، فهو جواب عما استشعره موسى من ذكر قومه في سياق هذا السؤال.
وتلقى موسى ما أذهله، وأشعل نار غضبه:
{قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}.
فهؤلاء هم قومه.. وما أحدثوا.. إنهم ليسوا على أثره كما كان يظن.
لقد ضلوا، ووقعوا في فتنة عمياء!.
وفى قوله تعالى: {فَتَنَّا قَوْمَكَ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى خلّى بينهم وبين أنفسهم، وما ينضح منها من مكر وضلال، فتركهم ليد السامرىّ يضلّهم ويذهب بهم في مذاهب الضلال كيف يشاء!.
{فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} والأسف، هو الحزين الذي يكاد يقتله الحزن.
والوعد الحسن الذي وعد اللّه بنى إسرائيل، هو أنه أنزلهم هذا المنزل من جانب الطور الأيمن، وأنزل عليهم المنّ والسلوى.
وفي قول موسى: {أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} استفهام إنكارى، يراد به أن العهد الذي بينهم وبين اللّه لم يطل، حتى ينسوه. وأنه ليس هذا عهدا تلقوه عن آبائهم وأجدادهم، بل هو عهد معقود مع هذا الجيل نفسه! فكيف ينسى هكذا سريعا؟
وفى قوله: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ}؟.
هو إنذار لهم بتلك العاقبة السيئة التي تنتظرهم من هذا الفعل الذي فعلوه، ولم ينظروا في عواقبه.
وقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}.
معطوف على محذوف، تقديره، أم ظننتم بي الظنون فأخلفتم موعدى معكم الذي واعدتكم عليه، وهو أن أعود إليكم بعد مناجاة ربى؟.
ويجيء جواب القوم في هذا الأسلوب الخبيث:
{قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا}.
إنهم يلقون التهمة عنهم بهذا الاعتذار الصبيانى: {ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا} أي بإرادتنا، واختيارنا، فقد كنا إزاء أمر لاخيار لنا فيه.. وإليك ما حدث فاحكم.
{وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها}.
وزينة القوم هي الحلي التي كانوا قد سلبوها من المصريين، ليلة خروجهم من مصر.
والأوزار: الأحمال جمع وزر.
وعبّروا عن الحلىّ، بالأوزار، لأنها كانت كثيرة من جهة، ولأنها كانت نهبا واختطافا من جهة أخرى.. فتحرّجوا من أن يحملوا هذا الحلىّ، وقد رزقهم اللّه كفايتهم من المنّ والسلوى.. هذا إلى أنه لم تكن بهم من حاجة إلى المال، في هذا المكان الذي اعتزلوا فيه الناس.
وانتهزها السامري فرصة، فألقى بما في يديه على هذا الحلي الذي قذف به القوم.. {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ} أي عجلا مجسدا، فيه حياة وله خوار.. أي يخرج من فمه هذا الصوت المعروف للبقر.
{فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ}.
إنه ما كاد ينظر القوم إلى هذا العجل، الذي خرج من هذا الحلي، حتى فتنوا به، وحتى أطلّ عليهم منه وجه العجل الذي كان يعبده فرعون وقومه.
فقالوا: {هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى} الذي ذهب إليه، ليلقاه هناك بعيدا عنا، فنسى نفسه هناك.. وفاته أن يدرك حظه من لقاء ربه معنا هنا!! وفى الانتقال بالحديث من الخطاب إلى الغيبة، إشارة إلى أن الذين واجهوا موسى أولا بقولهم: {ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها}.
هؤلاء هم الذين سبقوا إلى أن يبرئوا ساحتهم.. وأن كل ما فعلوه هو أنهم تخلصوا من هذا الحلي المغتصب الذي كان معهم!!- أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ} فهو مما نطق به لسان الحال، وكشف عنه الواقع.
وهو ردّ على هؤلاء الذين جاءوا في جلود الحملان الوادعة.. قائلين إنهم لم يفعلوا منكرا، بل فعلوا ما يحمدون عليه.. وهو التخلص من هذا المال الحرام!!
قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً}.
هو تعقيب على هذا الحدث، وفيه تسخيف لعقول القوم، وتسفيه لأحلامهم وإنهم لو كانت بهم مسكة من عقل لما رأوا في هذا الحيوان إلها، يعبدونه، ويرجون منه ما يرجو العابدون من ربهم! فهل إذا تحدثوا إلى هذا الحيوان.. يرجع إليهم قولا، ويرد إليهم جوابا؟ وهل لهذا الحيوان حول وطول يقدر به على النفع لعابديه، أو الضر لذابحيه؟ فما أحط الإنسان، وما أنزل قدره، حين يتخلى عن عقله.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}.
هو تعقيب أيضا على هذا الحدث، يذكر فيه لهرون موقفه من هذا الأمر المنكر، وأنه وقف للقوم، وأنكر عليهم ما هم فيه، وأنهم وقعوا في فتنة عمياء، وأن هذا ليس ربهم، وإنما ربهم الرحمن، الذي لو لم يأخذهم برحمته لمسخهم على هذه الفعلة، قردة وخنازير!! ولكن القوم مضوا في ضلالهم، وأبوا أن يستمعوا لهرون.
وكان ردهم عليه أن: {قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى}.
وإنهم ليقولون هذا، وقد قطعوا من قبل بأن موسى قد ضل طريقه، فهلك، ولن يهود! ومن عجب أن التوراة تذكر في صراحة أن الذي صنع العجل ودعا القوم إلى عبادته، هو هرون عليه السلام.
تقول التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج: ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه.. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتونى بها.. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا.
أهذا فعل يكون من نبى من أنبياء اللّه، ورسول من رسله؟ {سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ} [16: النور] وليس هذا الذي تقوله التوراة عن هرون إلا واحدة من تلك الشناعات الكثيرة التي سوّد بها اليهود وجه التوراة، بما حملوا إليها من مفتريات وأباطيل، على اللّه، وعلى أنبياء اللّه، وعلى عباد اللّه!! ثم تعود أحداث القصة إلى التحريك من جديد.
فها هو ذا موسى- عليه السلام- يتجه إلى أخيه هرون، ويأخذ برأسه وبلحيته في عنف وقوة.. قائلا:
{يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي ما منعك أن تأخذ الجانب الذي أنا عليه من الإيمان باللّه، وأن تنحاز إليه أنت ومن اتبعك؟ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}.
والأمر الذي أمره به موسى، هو قوله له، حين ذهب لمناجاة ربّه: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [142: الأعراف].. وجاء جواب هرون: {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.
إنه لم يلق أخاه بالشدّة التي لقيه هو بها، وإنما عرف لأخيه قدره ومقامه، وأنه كليم اللّه، وأن هرون وزيره.. فقال في لطف ورقة: {يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}.
بل أطلق سراحى، ودعنى أبين لك ما حدث.
إنى خشيت أن أعتزل القوم أنا ومن كان معى، ممن لم يرض ما فعله القوم- فتقول لى: إنك فرقت بين بنى إسرائيل، ولم تتبع ما قلت لك حين دعوتك إلى أن تخلفنى فيهم، وأن تصلح، ولا تتبع سبيل المفسدين.. وقد رأيت أن الفرقة بين القوم ستحدث تصدعا وشقاقا، وربما قتالا.. فرأيت أن أدع الأمر على ما هو عليه، بعد أن نصحت واجتهدت في النصح، حتى تأتى أنت وتعالج هذا الدعاء بما ترى، أو بما يريك اللّه! ويدع موسى أخاه. ويتلفت إلى السامري:
{قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ} أي ما شأنك؟ وماذا فعلت؟
{قالَبَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}.
قوله: {بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}.
أي رأيت ما لم ير القوم.. وهو أنى رأيت أثرا من آثار الملك الذي كان يتحدث إليك.. فقبضت قبضة من التراب حيث موضع قدمه.. وعلمت أن الملك روح خالص، وأن في آثاره على الأرض أثرا من الروح.. هكذا قدرت.. وقد رأيت أن أجرّب الأمر فصنعت من الحلىّ تمثالا على هيئة عجل.. ثم ألقيت فيه بهذا الأثر، فدبت فيه الحياة، وانطلق منه الخوار.. ففتن القوم به.. وعبدوه!
وكان ردّ موسى على السامري:
{قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ}.
هذا هو عقابك في الدنيا، أن تتحاشى الناس، ويتحاشاك الناس.
وألا تمسّهم، ولا يمسّوك، فإن فعلت أو فعل بك، أصبت بالحمى، أو مسّك شواظ من نار.. وهذا هو عقاب الدنيا.. وهو من جنس عمله، فقد أراد بالعجل الذي صنعه، أن يجمع الناس حوله، وأن يكون ذا سلطان فيهم.
فكان أن حرمه اللّه هذا السلطان، بل وأخرجه من أن يعيش مع أحد، أو يتصل بأحد، بهذا الداء الذي الذي رماه به.
وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ}.
الموعد، هو الوعد، وهو يوم القيامة.. وهو موعد الناس جميعا للحساب والجزاء.. ومن بين الناس السامرىّ هذا، فإنه سيبعث، ويحاسب، ويجازى على ما كسب.
وقوله: {وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}.
هو خطاب من موسى إلى السامري، وإلى بنى إسرائيل جميعا.. وخصّ السامرىّ بالخطاب، لأنه رأس الفتنة، ومدبرها، ومخرج هذا الإله للناس، في العجل الذي صوّره.
فهذا الإله والعجل الذي ظلّ عليه القوم عاكفين، يعبدونه، ويقدمون القرابين إليه- سيمثل به موسى أشنع تمثيل أمام أعينهم.. إنه سيحرقه، ثم يطحنه طحنا، وينسفه نسفا، حتى يصير رمادا.. ثم يلقى به في اليم.. فهل بمثل هذا يفعل بالإله؟ وهل يكون إلها من لا يدفع عن نفسه ما يفعل به من مكروه؟
وقوله تعالى: {إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
هو من قول موسى، تعقيبا على هذا الفعل الذي فعله بالعجل، وأرى القوم منه بأنه ليس إلا شيئا من هذه الأشياء القائمة بينهم، من جماد أو حيوان.. وبأنهم كانوا على ضلال مبين، وجهل غليظ، حين عبدوا هذا الكائن، واتخذوه إلها.
ولكن هل ينتفع القوم بهذه التجربة الحيّة؟ وهل تخلص نفوسهم للإيمان باللّه والاستقامة على سبيله؟
إن الأيام ستكشف منهم عن أخبث طباع، والأم نفوس ركبت في الناس!